Social Icons

Featured Posts

الرسالة صفر : وليد حمدي اسرائيل

عزيزتي مدن
مساؤك سكر

صباح مشرق وسعيد ككل ما يمسه طيفك
أتذكرين حين لُمتك لأنك تستهلين خطاباتك لي بـ عزيزي وليد
ها أنا اسحب لومي
اكتشفت ان معك حق ربما تكون حبيبي أنسب للمحادثة لكن عزيزي أو عزيزتي لها وقع ألطف في الكتابة
لا تسأليني عن السبب فمنذ أبديت اعجابك بأني اتصرف وفق حدسي وانطباعاتي الاولية حتى ولو لم تكن مبررة وانا أبالغ جدا في هذا المجال
حين أتخيل لقاءنا المرتقب
لا أستطيع أن اتخيل في المشهد الا كل ما هو أنيق
أتخيلك ترتدين فستان من البروكار الدمشقي
أحمر قاني
بلا أكمام
ضيق من الاعلى وحتى الخصر
ثم يبدأ في الاتساع حتى الكعب
تجلسين الى بيانو في بهو فسيح لأحد القصور
تعزفين احدى مقطوعات "شوبان "
لابد أن يكون "شوبان "
فكرت في "رخمانينوف" أو "ليست"
لكن لم تعجبني أسماؤهما
اختيار بيتهوفن أيضا سيكون مبتذل الى حد كبير
نطق (شوبا) بالفرنسية سيجعلك أكثر أناقة وانت تحكين لاشبيناتك عن اللقاء بينما تضحكين من الفرحة والاثارة
ثم أقترب منك ببطء
أضع كأس الشمبانيا الذي أحمله على حافة البيانو
لا تقلقي الشمبانيا لاستكمال حالة الاناقة فقط
ثم سأخلع قبعتي وانحني امامك بلطف كاحد نبلاء القرن التاسع عشر الانجليز الذين يظهرون في الافلام التاريخية
لابد أن يكون من الانجليز
الفرنسيين يبالغون في التأنق بما يليق أكثر بالنساء
سأمد اليك يدي
ستقومين بدلال تترنح له أعمدة القصر الضخمة
وسنرقص على أنغام البيانو الذي سيستمر في العزف لست وثلاثين ساعة قادمة بعد أن مسته أناملك
لن نتحدث
لن أنظر في عينيك
لا أريد أن أحترق كفراشة أغواها النور
فقط سندور ونرقص
ونرقص
ونرقص
وفي الفجر
حين أكون وحيدا في غرفتي المظلمة الا من نورك في أحلامي
سأدون في دفتري ست كلمات أخيرة
" يمكنني الان أن أموت في سلام"
المخلص لك دائما

و ليد

الرسالة الثالثة والاربعون : وليد حمدي اسرائيل


عزيزتي مدن
مساءك سكر
ربما أجمل ما في أغاني أم كلثوم يا مدن انك في كل مرة تسمعينها تكتشفين فيها جمالا جديدا
جملة لحنية رقيقة
كوبليه شديد العذوبة
تنهيدة ، آهه
المهم انك كل مرة تخرجين بمتعة جديدة
ورغم قناعتي التامة بهذا الامر الا انك لو سألتني قبل يومين عن الجديد الذي قد اكتشفه في رائعة بيرم التونسي " هو صحيح الهوى غلاب" فربما مر بخاطري كل كلمة من الاغنية الا ذلك الجزء الذي سأكتب لك عنه اليوم
" إزاي يا ترى ؟ اهو ده اللي جرى! "
تلك الجملة القصيرة البسيطة التي احسبها  أبلغ ما كتب في وصف الحب بغموضه الساحر الآسر العجيب
قديما قالو : "لو لم يكن سرا لم يكن حبا"
والسر هنا لا يعني الكتمان بالطبع ياسارة
فالعاشق الحق لا يقوى  أبدا على الكتمان
إذ يتبدى الحب في كل التفاته ملهوفة ناحية الحبيب
وفي كل رعدة تسري بخلاياه إذا ماهل
يتبدى في تلك النبرة شديدة الخصوصية التى لا يخاطب بها احد سوى الحبيب
في البهجة التي تشع من مسامه في حضرتة
في تلك اللجلجة التي تصيبه إذا ما اتى ذكر الحبيب  امامه على حين غره
وحتى في البعد يا مدن لا يقوى العاشق على مداراة حبه
إذ تفضحه نظرته الزائغة بحثا عن أثر الحبيب وطيفه
ويفيض منه الوله والوجد حتى ليدرك كل من كان له قلب انه عاشق بالبعد مبتلى
فما معني " السر" إذن
السر هو الغموض التام الذي يميز حالة الحب
فجأة وبلا مقدمات
يصبح قلبه بين إصبعي الحبيب
إن شاء منح فيحلق في سماوات الهناء والسرور
وإن شاء منع فيغرق في غيابات الحزن والاسى
فجاة
يتلاشى الزحام والضوضاء
ينكسر الحر
تزهر الاشجار
و تصبح جميع الألوان زاهية
متى حدث كل هذا؟ وكيف؟
يحاول العاشق جاهدا ان يتذكر فلا يستطيع
بل الأدهى أن يعجز حتى ان يتذكر كيف كان حاله قبل تلك اللحظة الساحرة
كيف كان يشعر؟
وكيف كان يرى العالم؟
لا يدري
وتصبح المسالة ليست عن  حياة جميلة واخرى سيئة أو عن شعور بالسعادة وإحساس بالحزن
بل تصبح المقارنة بين الحب واللاحب
كالمقارنة بين الوجود والعدم
بين الحياة والموت
وكأن حالة الحب هي حالة الحضور الطاغي للروح
حالة الوهج والسطوع
وكل ما سواها يبدو امامها خافتا وباهتا ومهينا
ليس ثمة دهشة إذن لم نجد إجابة لأسئلة الحب سوى تلك العبارة العبقرية
"إزاي يا ترى ؟ اهو ده اللي جري! وأنا ما أعرفش .. ما أعرفش أنا"
عدا أن هناك سؤال واحد مازال يمكن الاجابة عليه
ذلك أنه ليس فقط عن الحب
ولكنه أيضا عن الخذلان
لماذا يا مدن؟
لماذا انت لست معي الآن؟
فهل هناك أمل أن أحصل علي تلك الإجابة قبل رسالتي القادمة؟
هذا طبعًا إذا سمح الباشا الضابط وتغلب فضوله على غبائه فتركني أكتبها.

المخلص لك دائما
وليد

الرسالة الثانية والاربعون : وليد حمدي اسرائيل

عزيزتي مدن
مساءك سكر
تمر الايام والشهور
تفوت السنوات تلو السنوات
يتلاشى العمر أمامنا كشهاب يحترق ولاشئ  يزيد سوى تلك الأشياء التي كنا نتمنى لو فعلناها
القرارات التي أجلتها حيرتنا وترددنا  وجبننا حتى فات أوانها
الهوايات التي لم نمارسها خوفا من كلام الناس
الأشخاص الذين تركناهم لدوامة الغياب تبتلعهم حفاظا على كبرياء زائف
ما الذي منعنا من التمسك بهم كما ينبغي ؟
كما يتمسك الاطفال بكفوف امهاتهم في الاسواق
لو أنا حتى أتـقـنَـا الوداع ؟
عندما أنقذ فورست جامب صديقه بوب من النيران في الحرب
وبينما بوب يحتضر قال له فورست (هاي بوب)
شعر فورست بعدها بالندم وقال انه لو كان يعلم انها المرة الاخيرة لكان قال شيئا آخر
شيئا أكثر أهمية
لا بأس
أظن أنه كان سيندم على أية حال
مهما كانت الكلمة التي قالها
كل الكلمات تبدو أقل أهمية ساعة الوداع يا مدن
كل الكلمات
لاشئ يناسب الوداع سوى الحضن
هو الوحيد القادر على تخفيف الندبة التي يخلفها الوداع في الروح
لماذا لم تمنحيني ذلك الحضن قبل غيابك يا مدن؟
أليس هناك وسيلة لمتحينني إياه الآن؟
ثم تغيبين من جديد
في أحد لأفلام الامريكية قابل البطل حبيبته بعد عدة أيام من مشاجرتهم معا
فلم تتذكره!
لم تكن تتظاهر بذلك
كانت حقا قد نسيته تماما
فكرت وأنا أشاهد الفيلم تلك الأغنية التي قلت لي مطلعها فأكملته لك
لم تصدقيني  وقتها حين اخبرتك أنني لم أسمعها من قبل
لا أدري ما علاقة ذلك الموقف بهذا الفيلم لكنني تذكرته
تذكرت أيضا اننا لم نتشاجر قط  قبل غيابك
فكيف نسيتني إذن؟
ومتى؟
ولم؟
اندهش البطل من موقف حبيبته ولم يصدق انها نسيته بهذه السرعة
ثم اكتشف أن طبيبا في المدينة يستطيع محو الذكريات ليمنح عملاءه حياة جديدة
وعندما سأله عن حبيبته أخبره الطبيب أنها أرادت فقط أن تنطلق
أنا أيضا اريد أن انطلق يامدن
تتسرب الأيام من بين أصابعي كحبات رمل ساخنه وانا قابع في نفس البقعة لا ابرحها
أحاول الهرب
أعدو بكل قوتي
أعدو
وأعدو
وأعدو
فاكتشف أني أسير نحو الأسفل
كل الطرق بعدك منحدرات زلقة ودائرية تعيدني الى نفس المكان
تعيدني إليك
عندما قرر البطل ان يمحو ذكرى حبيبته هو ايضا طلب منه الطبيب أن يجمع كل ما يخصها في حياته
الملابس
الهدايا
الاشعار التي كتبها لها
الصور
كل ما قد يذكره بها يجمعه في صندوق ويحضره للطبيب
تخيلت نفسي في نفس الموقف فشعرت وكأنني كنت اخشى هذا المصير فخبأتك في كل ثنايا حياتي
وجدتك تختبئين بين اصابعي
خلف اذني
في ذلك الثقب الذي حشاه الطبيب في ضرسي
أسفل ضحكتي
تحت جفوني
في تجويف حرف الحاء من إسمي
وراء شجرة الياسمين في حديقتنا
في حقيبة أمي
خلف برواز صورة أبي
وجدت أن علي أجمع حياتي كلها واضعها في ذلك الصندوق
أو..
أو اطلب من الطبيب أن يقتلني أسهل
ثم فكرت أنني لا أريد أن امحوك من أوراق ذاكرتي
وأنني فقط أريد إجابة لذاك السؤال الثقيل كشعور اليتم
لماذا يا مدن؟
لماذا انت لست معي الآن؟
فهل هناك أمل أن أحصل عليها قبل رسالتي القادمة؟
هذا طبعًا إذا سمح الباشا الضابط وتغلب فضوله على غبائه فتركني أكتبها.

المخلص لك دائمًا
وليد

الرسالة الحادية والاربعون : وليد حمدي اسرائيل

عزيزتي مدن
مساؤك سكر
اوشكت على اليأس من استعادة قدرتي على الكتابة يامدن
شهور طويلة مرت ولا شئ يحدث لي سوى أني ازدحم بالكلمات والاسئلة فأتضخم
حاولت
حاولت مرارا
ولكنني في كل مرة امسك الورقة والقلم
أجد الكمات كلها مكررة ومعادة
ككل تفاصيل الحياة بدونك
نفس الحزن
ونفس الالم
ونفس الغربة والضياع
كل ليلة بعد ان يتوسد الناس أحلامهم التي لا تتحقق
تخرج إلي وحدتي من ذلك الثقب الغائر الذي خلفه غيابك في روحي
تخرج كمصاص دماء هائل يقتات ليلا على أعصابي وشراييني وانفاسي
توصد كل مسام الكتابة لدي فأبتهل إلى الله أن يمن علي بالفرج
أدعوه أن يحلل عقدة لساني
لكنني
أقول في نفسي لا بأس لا تستعجل الحزن
سيفيض في أوانه

بالامس استعرت هاتفا نقالا من ابراهيم واثناء تصفحي للأسماء المسجلة عليه
استوقفتني كلمة ( بابا)
نطقتها ببطء وصوت مسموع كأنني أتذوقها على طرف لساني
اصابتني بغصة مريرة في حلقي
لم يتح لي أسجل اسم "بابا" على هاتفي
لم يحمل أبي في حياته هاتفا نقالا
الحق ان أشياء كثيرة لم يتسن لأبي أن يفعلها
لم يعش في الاسكندرية كما كان يتمنى
ولم يتعلم عزف العود
ولم يتزوج الفتاة التي أحبها
وطوال عشرين سنة عشتها معه لم أضبطه مرة وحيدة متلبسا بفرحة
لم يكن ذلك بسبب ضيق الوقت او ضيق الحال أو اي ضيق
الحزن كالموت لا يحتاج لأسباب مقنعة كي يجثم على الصدور
هو يحدث لأنه يحدث
هكذا بمنتهى البساطة
أتعلمين؟!
من رحمة الله تعالى بالبشر ان هناك غلالة رقيقة تغلف وجه الحياة فتحجب حقيقتها عن الناس وتحفظ لهم قدرتهم على اقتناص بعض لحظات الفرح
لكن البعض تصيبهم لعنة ما تجعلهم يخترقون تلك الغلالة
ينظرون مباشرة الى وجه الحياة الحقيقي القبيح
يبصرون قسوتها وبشاعتها وزيفها
كذلك كان أبي
ذلك العابد الزاهد الاسمر الرقيق
صاحب الابتسامة الحنون الواهنه التي تفضح حزنه أكثر مما تداريه
" ماذا بك"
يسأل إبراهيم ذلك السؤال القصير الماكر
فتقذفني الحروف الست بقسوة الى سراديب الوجع العميقة الملتفة حولي كشرنقة من فولاذ او كزنزانة بقفل صدئ ضاع مفتاحه منذ الف عام ويومان
ماذا بي؟
بي وجع يختبئ خلف كل شهيق
بي وطن لم يعد وطن
بي قهر الذين غرقوا في العبارات وقهر الذين نجوا
بي أنين كل الذين رأيتهم يتألمون ولم أفعل لهم اكثر من مصمصة الشفاه وبضع كلمات وفي بعض الاحيان القليلة دمعتان
بي خذلان كل من وثقنا بهم واودعنا لديهم احلامنا
بي خيبة امل تتمدد في صدري و لا يقوى شئ على نزعها
بي قلق أبدي آت من ماض خاو يتسكع باستهتار عاهرة  نحو مستقبل يعد بالمزيد والمزيد من اللاشئ
بي  دماء تسيل بلاسبب عادل
بي امهات ثكلي واطفال يتامى وآلاف المعتقلين
بي جشع الكل تجاه الكل
بي هذا العالم
بي فقر أمينة المزغودة و بؤس خالتي ثريا
بي غربة عماد وموت أبي ووحدة امي ومرضها
بي غيابك مدن
بي غيابك
.......
ها انا قد كتبت
هاهو الفيضان آت
...............
"لم كل هذا الحزن  رغم  انك تعيش حياة مريحة"
سأل ابراهيم أيضا لكنه كان يسأل عماد هذه المرة
سحب عماد نفسا طويلا من سيجارتة و اخرجه ببطء ثم القى بعقب السيجارة على الارض ودهسها بطرف حذاءه بغل
ثم حكى لنا عن امرأة انجليزية كانت تشتكي لصديقتها من انتشار الخبز البولندي وغياب الخبز الانجليزي في مدينتهم ولما سألتها الصديقة هل هو سئ؟ أجابت السيدة بالنفي وقالت بالعكس مذاقه لذيذ ولكنه ليس خبزنا
رجع عماد بظهره للوراء ونظر للسماء ثم أضاف بانجليزية متقنه ( اتس نوت أورز ذاتس ذا بوينت)
ثم نظر في عيني وقال بنبرة محبطة : ذلك حال المغتربين يعيشون حياة مريحة لكنها ببساطة ليست حياتهم
- ترى ما هي حياتنا يا وليد ؟
اطرقت الى الارض
لفنا صمت ثقيل
  احتضنته
بكينا
لكنني الى الان مازلت أبحث عن إجابة لسؤاله
ترى ماهي حياتنا يا مدن؟
إسمعي
قد أتنازل عن اجابة هذا السؤال
لكن ماذا عن إجابة السؤال الأهم
لماذا يامدن؟
لماذا انت لست معي الآن؟

فهل هناك أمل أن أحصل عليها قبل رسالتي القادمة؟
هذا طبعًا إذا سمح الباشا الضابط وتغلب فضوله على غبائه فتركني أكتبها.

المخلص لك دائمًا
وليد

الرسالة الاربعون :وليد حمدي اسرائيل

عزيزتي مدن
مساءك سكر
لو كنت معي الآن ! كي أتوكأ عليك وأهش بك على ما تبقى من أحلامي قبل أن تتلاشى كليا
انا متعب يامدن
منهك
انهكني اللهاث خلف حب لا وجود له سوى في رسائل بلا صدى
وانهكتني الحياة في عالم لا هم له سوى ان يهدم كل ما نؤمن به
انظر الى عمري بتمعن فأكتشف انه كان عبارة عن مسيرة ممتدة من اللاشئ
كل ما تربينا عليه من قيم  ليست أكثر من مجرد هراء وترهات لا وجود لها سوى في الكتب المدرسية وافواه الاباء والامهات
زملاء العمل يكرهون المدير الجديد لأنه يدقق على الحضور والانصراف في حين أنهم يشعرون بالملل إذا قضوا الساعات الست بأكملها في العمل ولذلك رفعوا شكوى لوكيل الوزارة يطالبون بنقل المدير وزيادة رواتبهم
صديقي الذي كان يغسل يديه قبل الاكل وبعده  أصيب بفشل كلوي  ووالده الذي يدخن ثلاثين سيجارة في اليوم هو الذي يحمله الى المستشفى اسبوعيا
وعم غنام تلقى خبر وفاة  ابنه المجند في سيناء بينما كان عم غنام نفسه يرقص على أنغام تسلم الايادي في المظاهرة التي نظمتها المحافظة للاحتفال بعيد تحرير سيناء وصنافير وتيران فأصيب بلوثة وأخذ يبكي ويولول لكنه لم يتوقف عن الرقص!
أما خالد شقيق ابراهيم صديقي الذي استثنيه من قاعدة ان كل الاثرياء أوغاد بالضرورة فقد حصل على إعفاء من التجنيد الاجباري لأن والده لا يحبه أن يبيت خارج المنزل لكن الضابط الذي حرر شهادة الاعفاء رفض ان يكتب هذا السبب في الشهادة وفضل أن يكتب بدلا منه " غير لائق نفسيا"
هل للمبادئ دور في حياتنا سوى تكبيلنا كقربان يعد للذبح يا مدن؟
الوطنية
الثورة
التضحية
الحرية
العدالة
الخير
كل المبادئ التي نشأنا عليها نراها الآن مصلوبة أمام أعيننا على قارعة الطريق ولا نملك الا أن نحدق فيها مذهولين
ثم نبكي
لكن حتى البكاء لم تعد مآقينا تجود به بسهولة
كيف لإنسان يحمل بداخله أي معنى  أن يتحمل الحياة في هذا العالم العابث السخيف البشع
حيث كل شئ يبدأ لينتهي
يولد ليموت
يأتي ليرحل
أين الحقيقة؟
هل الضحايا الغارقين في دمائهم الذين نشاهدهم كل يوم هم الجناة حقا؟
ما معنى الجملة السابقة؟
هل الحلم  خطيئة؟
ماهو الرابط الخفي بين الواقعية وموت الضمير؟
أتدرين يا مدن !
أخشى ما أخشاه هو الاعتياد
أن تصبح مشاهد القتل والاشلاء والدم والظلم مشاهد معتادة لها وقع محايد على النفس كالاعلانات والنشرات الجوية
برغم كل الالم الذي يقتات على روحي الا انني أخشى أن أعتاد الظلم
ان أصير مثل هؤلاء الزومبي المقززين الذي يبادرون بالتعري ورقص الاستربتيز دفاعا عن الظلمة والمستبدين
ولذلك فإنني أسأل الله سؤالا واحدا كل ليلة
يا الله! متى اغيب عن االوعي؟
صدقيني يامدن حاولت جاهدأ ان اكتب لك شيئا مبهجا بعد كل هذا الغياب
لكن منعتني صور ضحايا حلب الذين لسبب غامض  لم أقو على اعلان تعاطفي معهم
لم أعد أستطيع ان أمارس ذلك التعاطف السلبي المريح  دون أن يصاحبه الكثير من التقزز من نفسي
ومن البشر يامدن
لماذا لم يخلقني الله " كلب" ؟
كلب ينبح فقط على الغرباء ولا يهاجم بني جنسه الا إذا أصاب مخه عطب أو مرض ويكون مصيره وقئذ العلاج أو القتل لا الاحتفاء والتكريم
لابد أن له حكمة في ذلك !
لابد أنه أيضا له حكمة في كل ما يحدث !
لكني لا أدركها
لابد
غير أن ما أدركه تماما أنه لايمكن لإنسان سوي أن يشعر بالسعادة والتفاؤل في وسط كل هذا الكم من الدماء والظلم
و إلى أن يتحقق دعائي وإلى أن تجيبي سؤالي
لماذا أنت لست معي الآن يا مدن؟
سيظل القلب نابضا بحبك
فإلى مرة  قادمة اختلس خلالها من الدنيا بضع دقائق أمارس فيها فعل الحياة الوحيد وأكتب لك رسالتي التالية
هذا إذا سمح الباشا الضابط وتغلب فضوله على غبائه فتركني أكتبها
المخلص لك
وليد

الرسالة التاسعة والثلاثون : وليد حمدي اسرائيل

عزيزتي مدن
مساءك سكر
منية القلب وبهجة الروح  ومعنى الحياة
الجميلة البهية النقية مدن
هل تذكرين فيلم  "جيم كاري" الشهير " فن ويز ديك آند جين"  الذي ظننا  انه مأخوذ من فيلم "عصابة حمادة وتوتو"
يومها سألتني باستغراب : يحي الا تلاحظ التشابه الكبير بين هذا الفيلم وبين فيلم عصابة حمادة وتوتو ؟ هل يعقل أن يكون مقتبسا منه؟؟
كم كانت لذيذة هذه الفكرة
فكرة أن يقتبس منا الغرب شيئا ما
حتى ولو كانت فكرة فيلم هزلي
للأسف بالامس أكتشفت أن فيلم جيم كاري هو نسخة حديثة من فيلم أمريكي يحمل نفس الاسم أنتج عام 1977 أي قبل خمسة أعوام من الفيلم المصري
كثيرا ما أسأل نفسي سؤالا
ماذا سيخسر العالم لو اختفت هذه المنطقة ؟
ما سيحدث إذا استيقظ الكوكب في الصباح فوجد نفسه بدون شرق أوسط؟
هل سيفتقد الغرب شيئا غير بعض الاماكن التي تؤمن له التعذيب للخارجين عن قوانينه ؟؟
أخشى ان الاجابة ستكون مزعجة ككل الحقائق .
على ذكر الإزعاج ألم تلاحظي معي انني لم اعد آتي على ذكر حضرة الباشا الضابط سوى في نهاية الرسالة فقط ؟
حسنا
هذه هي سياستي الجديدة إزاء منغصات الحياة من امثال الباشا
أو بالأحرى إزاء الحياة برمتها
الحياة في العموم عبارة عن لغز كلما حاولنا فكه تعقد
الحياة في حد ذاتها (مأزق مرير) ومن حيث كونها كذلك فإن أفضل وسيلة للتعامل معها هو التجاهل
أو كما قال وودي آلان ( التشتيت)
في كتابه حالة الاستثناء يؤكد جورجيو أجامبين ان النظام الحالي يستطيع في لحظة وبمجرد قرار يصدر من السلطة  ان يمحو إنسانية الانسان ويقوم بسحقة بلا رحمة من أجل انقاذ شئ خيالي اسمه الدولة
وفي كتابات زيجمونت باومان يشرح لنا كيف نجحت بيروقراطية الدولة والتكنولوجيا في تحويل الانسان الى وحش عقلاني يضغط على زر بينما يتناول الايس كريم او كوب القهوة فيطلق قنبلة تقتل مئات الأطفال والنساء والعجائز دون أن يثير هذا فيه أدنى ذرة من تأنيب الضمير
يشرحان كل هذا دون أن يوقولا لنا ما هو الحل؟ ما هو البديل ؟
أتدرين لم؟
لأنه ببساطة لايوجد حل
للأسف يامدن الحياة بوصفها "مأساة" لا توجد إجابة متفائلة حول قسوتها في هذا العصر
ومهما تحدث الفلاسفة وعلماء الدين اوالاجتماع أقصى ما يستطيعون فعله هو شرح الطريقة التي تسير بها الحياة
وانه لا أحد يعيش كما يريد
وأن الحياة أقدار
وأن . .
وأن . .
لكن لا أحد يجيبك على السؤال المهم
لماذا؟
لماذا كل هذا الهم ؟ كل هذا الدم ؟ كل هذا الألم؟
كل من يحاول أن يقنعنا أن الحياة تستحق العيش وأن الحياة لها معنى لا يستطيع أن يفعل ذلك دون أن يخدعنا  ويكذب علينا
لأن الحياة ببساطة ليس لها معنى
كيف أصدق أن الحياة لها معنى وانت لست معي يا سارة ؟
كيف يكون للحياة معنى وكل شئ مصيره إلى الزوال ؟
كيف يكون للحياة معنى والموت يمتلك كل هذه السطوة وذلك الجبروت؟
حينما كنت أقرأ كتاب الخالدون مائة ولما وجدت أن معظم العظماء الذين ذكرهم الكتاب عاشوا حياة بائسة ولم يحظوا بالتكريم والاحتفاء إلا بعد وفاتهم
تساءلت وقتها عن الفرق بين هؤلاء العظماء وبين البؤساء الآخرين ؟ وبم سينفعهم التكريم بعد الموت؟
هل تجدين لهذا الأمر أي معنى؟
صدقيني يا مدن
في حياة تسير بنا بلا هوادة في طريق وحيد نحو المزيد والمزيد من الفقد ليس هناك سوي "التشتيت" و عدم التركيز كأنجع وسيلة لاحتمالها
ولذلك يحب  الانسان الابداع
الابداع يشتتنا
نجيب محفوظ
ديستويفسكي
فان جوخ
هانز زيمر
عاطف الطيب
دانيال دي لويس
كل هؤلاء المبدعين يقومون  بتشتيتنا
هم من يقوم بارسالنا بعيدا
حيث نحصل على هدنة من التفكير بالأشخاص الذين فقدناهم
والفرص التي أضعناها
والآثام التي ارتكبناها
نحصل على استراحة مؤقتة من الواقع المكدس بالخذلان والطمع والظلم
رسائلي  إليك أيضا تقوم بتشتيتي
تجعلني أصدق أننا مازلنا نتواصل
وانك تقرأين ما أكتب
وتكترثين لأمري
وتذكرينني
رسائلي إليك تعينني على الاحتفاظ بذلك الأمل الهزيل بأن أحصل قبل رسالتي القادمة
على إجابة لسؤالي المكرر المرير
لماذا انت لست معي الآن يا مدن؟
هذا طبعا إذا سمح الباشا الضابط وتغلب فضوله على غبائه فتركني أكتبها
المخلص لك دائما
وليد

الرسالة الثامنة والثلاثون : وليد حمدي اسرائيل


عزيزتي مدن
مساءك سكر
ها أنا أعود من جديد
ربما أتجرأ واقول ان هناك ما يجعل رسائلي إليكي مميزة يا مدن
إنه الصدق
دوما كانت كلماتي إليك صادقة صدق الدم الطازج ينزف من جرح عميق
كتابتها كانت دوما بديلا  وحيدا عن الانهيار
على سيرة الصدق يجب أن أخبرك أن  العبارة السابقة ليست لي ولكنها للأديب الجميل الاستاذ علاء الديب
كتبها في مقدمة سيرته الذاتية التي وضعها في نهاية الكتاب !
تسحرني كتابات علاء الديب يا مدن
كتاباته الصادقة جدا جدا حد الوجع
الابطال الذين يعانون من الحيرة والقلق والمثالية والخذلان
احداث الروايات المفعمة بالمشاعر والحزن الشفيف الوقور والالم
كل هذه الاشياء تأسرني وتسلب لبي
البعض يعيب على الرجل جرعة الحزن والكآبة الزائدة التي تميز كتاباته
لكني اعذره واستغرب كيف يعتبون على رجل يكتب بهذا القدر من الصدق
رجل يكتب بروحه وقلبه وأعصابه وأوردته
أعذره وافهمه
واحبه
أرى فيه وفي أبطاله الذين يودعهم جزء من روحه شبها كبيرا من أبي
الرجل المثقف المثالي اللماح
عينه مدربه على التقاط ادق التفاصيل وادراك التناقضات
يئن تحت وطأة قيمه ومبادئه في مجتمع لا يعترف باي قيم أو مثل عليا
يحمل ضميرا يقظا حساسا جعله يترفع عن خوض المعارك اليومية من اجل أشياء لا معنى لها ولا جدوى منها فيجد نفسه وحيدا وغريبا ليس له مكان في هذا العالم المصاب بالسعار والشراهة والنهم
يدرك أن الدنيا .. دنيا .. فيقرر اعتزالها
تقتله الاسئلة الكبرى التي تزيدها الاجابات تعقيدا
يمارس الكتابة بحثا عن ذاته ومعنى الوجود من حوله فتأتي كتاباته مثله
قلقه .. حيرانه .. حزينة .. لكنه ليس الحزن الزاعق المنفر
بل حزنا رقيقا شفيفا يزيده انسانية وألقا
هذا هو أبي
وهذا هو علاء الديب وأبطال رواياته
المثقف البرجوازي المبتلى بصفات الطبقة المتوسطة
الحالم الرومانسي الذي تحطمت احلامه
لأسباب لا دخل له بها
فلاذ بالحزن والكتابه
ويستكثر عليه البعض أن يبعثر نفسه على الورق ويمارس بعض البوح
عله يجد فيه يوما بعض السلوى والعزاء
مدَن . . لا مزيد من المراوغة
أنا أيضا حزين
والحزن كالحب لا يحتاج لأسباب
أرجوك لا تفعلي مثل أمي وتعددي لي أسباب السعادة والنعم التي حباني الله بها فأنا أحفظها أكثر من أي شخص آخر وأحمد الله عليها كثيرا
لكني رغم كل هذا حزين !
في البدء كان الحزن يا مدن ثم أتت بعده جميع المشاعر
وهو رغم قسوته إلا ان المرء لا يملك سوى أن يحترمه ويوقره
تتلاشى الكلمات من رأسي كـ ( لا أجد تشبيه مناسب)
لا أدري ما هذه اللعنة التي أصابتني
عجز تام عن الكتابة
وكلما فكرت في الامر تعقد أكثر
وكلما أرغمت نفسي على الكتابة تأتي الكلمات
ركيكة
ملفقة
منزوعة المعنى كأنها نقوش وطلاسم
قبل أسبوع كنا في جنازة أحدهم
- يالسخافتي اللواء حامد عبد الرازق الذي كانت تهتز له المحافظة كلها يصبح أحدهم –
هل هي سخافتي أم سخافة الموت ؟
الموت!
لم يعد للموت جلال
أصبح كأعراض البرد والصداع
لم تعد زيارته مفجعة أو مربكة
اصبحنا ننظر له باعتياد بينما نمارس طقوس حياتنا العادية
نتناول العشاء أو نشاهد فيلمنا المفضل
ثم دفعا للملل أثناء انتظار الشاي أو في الفواصل الاعلانية
نتبادل الانباء عن عدد القتلى الذي سقطوا اليوم

أعجز باستمرار عن إدراك الموت بشكل كامل
كلما تفكرت فيه تتشكل صورته في ذهني تدريجيا على هيئة قطع من البازل تتجمع حول بعضها وقبيل اكتمال الصورة تنهار فجأة مخلفة في ذهني صورة ضبابية غير واضحة
أحيانا تقف شدة الوضوح والقرب عائقا أمام جلاء الرؤية
أقول هذا لنفسي وأكف عن التفكير
الاستسلام هو الحل
اللاحل هو الحل
في المقابر أتأمل الحفرة على يساري
قبر جديد فاغر فاه في انتظار وجبته القادمة
يالله
كل هذا الصراع والحروب واللهاث والعدو والاحتقان والتوتر والقلق والمشاحنات والتدافع من اجل هذه الحفرة!
يمنحني التفكير في الموت بعض الرضا!
لكنه لا يمحو الحزن
أحمل حزني على عاتقي وأجوب دروب الحياة راضيا وقانعا ومرددا : أنا إنسان وأعيش في هذا العصر لا حل لذلك
لقد خيرني الله منذ الأزل وقد اخترت وعلي أن أتحمل مسؤلية اختياري
صحيح أنني لا أتذكر هذا الموقف لكن الله يقول أنه حدث وأنا أصدق الله
أتدرين
أنا أرى أن جوهر سردية الايمان أن يتبقى من السردية  جزء غامض وغير منطقي وغير مقنع ومع ذلك يصدقه المرء فقط لأن الله أخبره به
لا حجج ولا أسباب ولا مقدمات منطقية
فقط الله
أنا لم أجد الله بعقلي
بل أجده بداخلي
أجده في عشقي لك
في حسنك الملائكي
في ضحكات الأطفال
في رائحة الارض بعد المطر
في شقشقة الفجر
في تلك النظرة التي أهدتني الوجود ذات حب
أتذكرينها ؟!
أنا أذكرها
أنا لا أنساها
أو بالأحرى لا أستطيع نسيانها
كل همسة
كل التفاته
كل نظرة
كل مادار بيننا يسكن أعماقي ويختبئ في تفاصيل حياتي
هو فقط يتحين اللحظة المناسبة كي يطفو من جديد
رنين الهاتف
أغاني منير
قميصي الكحلي
أذان الفجر
أيا من هذه الاشياء يكفي كي تشتعل اللهفة
كي تنبعث الذكري كعملاق هائل يسد أمامي جميع الدروب ولا يترك لي سوى درب الحنين
أنا لا أقوى على النسيان يا مدن
ولا أريده
أريد فقط إجابة وحيدة على هذا السؤال
لما أنت لست معي الآن؟
فهل هناك أمل أن أحصل عليها قبل رسالتي القادمة
هذا طبعا إذا سمح الباشا الضابط وتغلب فضوله على غبائه فتركني أكتبها
المخلص لك دائما
وليد

حقوق الطبع والنشر ، محفوظة لـ مجلة انا وذاتي